الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
وفي يوم الجمعة خامس عشره وصل مبشرون من ناحية الحجاز وهم أتراك على الهجن والخبر عنهم أن عساكرهم وصلوا إلى المدينة المنورة ونزلوا بفنائها. وفي يوم الأحد سابع عشره ورجع الباشا مكن ناحية السويس إلى مصر وفيه وردت أخبار لطائفة الفرنساوية وقنصلهم المقيمين بمصر بأن بونابارته وعساكر الفرنساوية زحفوا في جمع عظيم على بلاد المسكوب ووقع بينهم حروب عظيمة فكانت الهزيمة على المسكوب وانكسروا كسرة قوية وكتبوا بذلك أوراقًا ألصقوها بحيطان دوائرهم وحاراتهم ولما حضر الباشا طلع إليه القنصل وأخبره بتلك الأخبار وأطلعه على الكتب الواردة من بلادهم. وفي
ليلة الثلاثاء عدى الباشا إلى بر الجزيرة وأمر بخروج العساكر إلى البر الغربي وعدى أيضًا كتخدا بك بسبب أن عربان أولاد علي نزلوا بناحية الفيوم بجمع عظيم وأكلوا الزروعات فخرج إليهم حسن آغا الشماشرجي فوزن نفسه معهم فرأى أنه لا يقاومهم لكثرتهم فحضر إلى مصر وأخبر الباشا وتحرك الباشا للخروج إليهم ثم بعقيبه أرسل لهم وخادعهم فحضر إليه عظماؤهم فأخذ منهم رهائن وخلع عليهم وكساهم وأعطاهم راحتهم وعين لهم جهات وشرط عليهم أن لا يتعدوها ثم رجع وعدى إلى بر مصر في ليلة الخميس حادي عشرينه. وفي سادس عشرينه نهب العرب القافلة القادمة من السويس بحمل بضائع التجار وغيرهم وقتلوا العسكر الذين بصحبتهم وخفارتهم وأخذوا الجمال بأحمالها وذهبوا بها لناحية الوادي والجمال المذكورة على ملك الباشا وأتباعه لأنهم صيروا لهم جمالًا وأعدوها لحمل البضائع ويأخذون أجرتها لأنفسهم بدلًا عن جمال العرب وذلك من جملة الأمور التي احتكروها طمعًا وحسدًا في كل شيء ولم ينج من الجمال إلا البعض الذين سبقوهم وهم لكتخدا بك فحنق لذلك الباشا وأرسل في الحال مراسلات إلى سليمان باشا محافظ عكا يعلمه بذلك ويلزمه بإحضارها ويتوعده إن ضاع منها عقال بعير والذي ذهب بالمراسلة إبراهيم أفندي المهردار. واستهل شهر ذي الحجة بيوم السبت سنة 1227 في عاشره يوم الأضحى وردت هجانة من ناحية الحجاز وعلى يدهم البشائر بالاستيلاء على قلعة المدينة المنورة ونزول المتولي بها على حكمهم وأن القاصد الذي أتت بشائره وصل إلى السويس وصحبته مفاتيح المدينة فحصل للباشا بذلك سرور عظيم وضربوا مدافع وشنكًا بعد مدافع العيد وانتشرت المبشرون على بيوت الأعيان لأجل أخذ البقاشيش. وفي يوم الثلاثاء حادي عشره وصل القادمون إلى العادلية فعملوا لقدومهم شنكًا عظيمًا وضربوا مدافع كثيرة من القلعة وبولاق والجيزة وخارج قبة العزب حيث العرضي العد للسفر وأيضًا ضربوا بنادق كثيرة متتابعة من جميع الجهات حتى من أسطحة البيوت الساكنين بها واستمر ذلك أكثر من ساعتين فلكيتين فكان شيئًا مهولًا مزعجًا وأشيع في الناس دخول الواصلين في موكب واختلفت رواياتهم وخرج الباشا إلى ناحية العادلية فاصطف الناس على مصاطب الدكاكين والسقائف للفرجة فلما كان قريب الغروب دخل طائفة من العسكر وصحبتهم بعض أشخاص راكبين على الهجن وفي يد أحدهم كيس أخضر وبيد الآخر كيس أحمر بداخلهما المكاتبات والمفاتيح وعاد الباشا من ليلته وصعد إلى القلعة هذا والمدافع والشنك يعمل في كل وقت من الأوقات الخمسة وفي الليل وفي صبح يوم الأربعاء شق الآغا والوالي وآغات التبديل وأمامهم المناداة على الناس بتزيين الأسواق وما فيها من الحوانيت والدور ووقود القناديل والتعاليق ويسهرون ثلاث ليال بأيامها أو لها يوم الخميس وآخرها يوم السبت الذي هو خامس عشره وأخرجوا طاقات وخيامًا إلى خارج بابي النصر والفتوح وخرج الباشا في ثاني يوم إلى ناحية العادلية وهو ليلة يوم الزينة وعملوا حراقات ونفوطًا وسواريخ ومدافع من كل ناحية مدة أيام الزينة وكتبت البشائر إلى جميع النواحي وأنعم الباشا بأمريات ومناصب على عشرين شخصًا من خواصه وعين لطيف بك آغات المفتاح للتوجه إلى دار السلطنة بالبشائر والمفاتيح صحبته وسافر في صبح يوم الزينة على طريق البر وتعين خلافه أيضًا للسفر بالبشائر إلى البلاد الرومية والشامية والأساكل الإسلامية مثل بلاد الأنضول والرومنلي ورودس وسلانيك وأزمير وكريت وغيرهما. وفي أواخره وردت الأخبار المترافدة بوقوع الطاعون الكثير بإسلامبول فأشار الحكماء على الباشا بعمل كورنتينة بالإسكندرية على قاعدة اصطلاح الإفرنج ببلادهم فلا يدعون أحدًا من المسافرين الواردين في المراكب من الديار الرومية يصعد إلى البر إلا بعد مضي أربعين يومًا من وروده وإذا مات بالمركب أحد في أثناء المدة استأنفوا الأربعين. وفيه وشى بعض اليهود على الحاج سالم الجواهرجي المباشر لإيراد الذهب والفضة إلى الضربخانة وانعزل عنها كما ذكر في وسط السنة عند ورود الرجل النصراني الدرزي الشامي بأنه كان في أيام مباشرته للإيراد يضرب لنفسه دنانير خارجة عن حساب الميري خاصة به فأمر الباشا بإثبات ذلك وتحقيقه فحصل كلام كثير والحاج سالم يجحد ذلك وينكره فقال له أيوب تابعك الذي كان ينزل آخر النهار بالخرج على حماره في كل يوم بحجة الأنصاف العددية التي يفرقها على الصيارف بالمدينة وأكثر ما في الخرج خاص بك فأحضروا أيوب المذكور وطلبوه للشهادة فقال لا أشهد بما لا أعلم ولم يحصل هذا مطلقًا ولا يجوز لي ولا يخلصني من الله أن أتهم الرجل بالباطل فقال اليهودي هذا رفيقه وصاحبه وخادمه ولا يمكنه أن يخبر ويقر إلا إذا خوف وعوقب وإذا ثبت قولي فإنه يطلع عليه ستة آلاف كيس فلما سمع الباشا قول اليهودي ستة آلاف كيس أمر بحبس الحاج سالم ثم أحضروا اخوته والحاج أيوب وسجنوهم وضربوهم والباشا يطلب ستة آلاف كيس كما قال اليهودي واستمروا في ذلك أيامًا وذلك الحبس عند قرأ علي بجوار بيت الحريم بالأزبكية وسبب خصومة شمعون اليهودي مع الحاج سالم أنهم احتجوا على اليهودي بأشياء وقرروا عليه غرامة أيضًا فطلب من الحاد سالم المساعدة وقال له ساعدني كما ساعدتك في غرامتك فقال الحاج سالم إنك لم تساعدني بمال من عندك بل هو من حسابي معك فقال اليهودي ألست كنت أداري عليك فيما تفعله واتسع الكلام بينهما وحضرة الباشا وأعوانه مترقبون لحادث يستخرجون به الأموال بأي وجه كان ويتقولون ويوقعون بين هذا وهذا والناس أعداء لبعضهم البعض تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى. ثم إن السيد محمدًا المحروقي خاطب الباشا في شأن الحاج سالم وحلف عليه أن الغرامة الأولى تأخر عليه منها ثلثمائة كيس استدانها من الأوربيين ودفعها وهي باقية عليه إلى الآن ومطلوبة منه وذلك بعد أن باع أملاكه وحصة التزامه فإذا كان ولا بد من تغريمه ثانيًا فإننا نمهل أصحاب الديون ونقوم بدفع الثلثمائة كيس المطلوبين للمداينين وندفعها للخزينة فأجابه لذلك وأمر بالإفراج عن الحاج سالم واخوته ومن معه وفيه اشتد الأمر على إسمعيل أفندي أمين عيار الضربخانة وأولاده بالطلب من أرباب الحوالات مثل دالي باشا وخلافه وضيق العسكر المعينون عليهم منافسهم ولازموا دورهم ولم يجدوا شافعًا ولا دافعًا ولا رافعًا فباعوا أملاكهم وعقاراتهم وفراشهم ومصاغ حريمهم وأوانيهم وملابسهم وكان الباشا أخذ من إسمعيل أفندي المذكور داره التي بالقلعة عندما انتقل إلى القلعة فأمره بإخلائها ففعل ونزل إلى دار بحارة الروم بالقرب من دار ابنه محمد أفندي فاتخذ الباشا دار إسمعيل أفندي دار لحريمه وأسكنهم بها لأنها دار عظيمة جليلة عمرها المذكور وصرف عليها في الأيام الخالية أموالًا جمة فلما استولى عليها الباشا أسكن بها حريمه وجواريه وسراريه ولما قرر عليه غرامته أسقط عنه منها عشرين كيسًا لا غير وجعلها في ثمن داره المذكورة وذلك لا يقوم بثمن رخامها فقط فلما اشتد الحال بإسمعيل أفندي أشار عليه بعض المتشفعين بأن يكتب له عرضحال ويطلع به إلى الباشا صحبة المعلم غالي كبير الأقباط المباشرين ففعل ودخل معه المعلم غالي إلى الباشا فعندما رآه مقبلًا صحبة المذكور أشار إليه بالرجوع ولم يدعه يتكلم فرجع بقهره ونزل إلى داره فمرض وتوفي بعد أيام إلى رحمة الله تعالى ومات قبله ولده حسن أفندي وبقي جميع الطلب على ولده محمد أفندي فحصل له مشقة زائدة باع أثاث بيته وأوانيه وكتبه التي اقتناها وحصلها بالشراء والاستكتاب فباعها بأبخس الأثمان على الصحافين وغيرهم وطال عليه الحال وانقضت مواعيد المداينين له فطالبوه وكربوه فتداين من غيرهم بالربا والزيادة وهكذا والله يحسن لنا وله العاقبة. وفيه قدم إلى الإسكندرية قليون من بلاد الإنكليز فيه بضائع وأشياء للباشا ومنها خمسون ألف كيس نقودًا ثمن غلال وخيول يأخذونها من مصر إلى بلادهم فطفقوا يطلبون لهم الخيول من أربابها فيقيسون طولها وعرضها وقوائمها بالأشبار فإن وجدوا ما يوافق غرضهم ومطلوبهم في القياس والقيافة أخذوه ولو بأغلى ثمن وإلا تركوه. وفيه أيضًا أرسل الباشا لجميع كشاف الوجه القبلي بحجز جميع الغلال والحجر عليها لطرفه فلا يدعون أحدًا يبيع ولا يشتري شيئًا منها ولا يسافر بشيء منها في مركب مطلقًا ثم طلبوا ما عند أهل البلاد من الغلال حتى ما هو مدخر في دورهم للقوت فأخذوه أيضًا ثم زادوا في الأمر حتى صاروا يكسلون الدور ويأخذون من الغلال أقل أو أكثر ولا يدفعون له ثمنًا بل يقولون نحسب لكم ثمنه من مال السنة القابلة ويشحنون بذلك جميع مراكب الباشا التي استجدها وأعدها لنقل الغلال ثم يسيرون بها إلى بحري فتنقل إلى مراكب الإفرنج بحساب مائة قرش عن كل أردب وانقضت السنة ولم تنقض حوادثها بل استمر ما حدث بها كالتي قبلها وزيادة. فمنها ما أحاط به علمنا وذكرنا بعضه ومنا ما لم يحط به علمنا أو أحاط ونسيناه بحدوث غيره قبل التثبت ومنها أن الباشا عمل ترسخانة عظيمة بساحل بولاق واتخذ عدة مراكب بالإسكندرية لخصوص جلب الأخشاب المتنوعة وكذلك الحطب الرومي من أماكنها على ذمته ويبيعه على الحطابين بما حدده عليهم من الثمن ويحمل في المراكب المختصة به بأجرة محددة أيضًا ويأتي إلى ديوان الكمرك ببولاق فيؤخذ كركه إلى مكسه وهو راجع إليه أيضًا إلى أن استقر سعر القنطار الواحد من الحطب بثلثمائة وخمسة عشر نصف فضة وأجرة حمله من بولاق إلى مصر ثلاثة عشر نصف وأجرة تكسيره مثل ذلك فيكون مجموع ذلك ثلثمائة وأربعين نصف فضة القنطار وقد اشتريناه قبل استيلاء هذه الدولة بثلاثين نصفًا وأجرة حمله في المركب عشرة أنصاف وأجرته من بولاق إلى مصر ثلاثة أصناف وتكسيره كذلك فيكون مجموع ذلك ستة وأربعين نصفًا وكذلك فعل في أنواع الأخشاب الكرسنة والحديد والرصاص والقصدير وجميع المجلوبات واستمر ينشئ في المراكب الكبار والصغار التي تسرح في النيل من قبلي إلى بحري ومن بحري إلى قبلي ولا يبطل الإنشاء والأعمال والعمل على الدوام وكل ذلك على ذمته ومرمتها وعمارتها ولوازمها وملاحوها بأجرتها على طرفه لا بالضمان كما كان في السابق ولهم قومة ومباشرون متقيدون بذلك الليل والنهار. ومنها وهي من الحوادث الغريبة التي لم يتفق في هذه الأعصار مثلها إن في أواخر ربيع الآخر احترق بحر النيل وجف بحر بولاق وكثرت فيه الرمال وعلت فوق بعضها حتى صارت مثل التلول وانحسر الماء حتى كان الناس يمشون إلى قريب أنبابة بمداساتها وكذلك بحر مصر القديمة بقي مخاضًا وفقدت أهل القاهرة الماء الحلو واشتد بالناس العطش بسبب ذلك وبسبب تسخير السقائين ونادى الآغا والوالي على أن يكون حمل القربة للمكان البعيد باثني عشر نصف فضة استهل شهر بشنس القبطي فزد النيل في أوله في ليلة واحدة نحو ذراع ثم كان يزيد في كل يوم وليلة مثل دفعات أواخر أبيب ومسرى وجرى بحر بولاق ومصر القديمة وغطى الرمال وسارت فيه المراكب الكبار منحدرة ومقلعة وغرقت المقافئ مثل البطيخ والخيار والعبد اللاوي وما كان مزروعًا بالسواحل وهو شيء كثير جدًا استمرت الزيادة نحو عشرين يومًا حتى تغير وابيض وكاد يحمر وداخل الناس من ذلك وهم عظيم من هذه الزيادة التي في غير وقتها حتى اعتقدوا أنه يوفي أذرع الوفاء قبل نزول النقطة ولم يعهد مثل ذلك وكان ذلك رحمة من الله بعبيده الفقراء العطاش ثم إني طالعت في تاريخ الحافظ المقريزي المسمى بالسلوك في دول الملوك فذكر مثل هذه النادرة في سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة ولما ترافدت هذه الزيادات خرج الوالي إلى قنطرة السد وجمع الفعلة للعمل في سد فم الخليج ونادى على نزح الخليج وتنظيفه وكسح أوساخه وقطع أرضه ثم وقفت الزيادة بل نقص قليلًا وزاد في أوان الزيادة على العادة وأوفي أذرعه في أيامه المعتادة ومنها شحة الغلال وخلو السواحل منها فلا يجد الناس إلا ما بقي بأيدي فلاحي الجهات البحرية القريبة فيحملونه على الحمير إلى العرصات والرقع ويبيعونه على الناس كل أردب بأربعة وعشرين قرشًا خلاف المكس والكلف واستقر مكس الأردب الواحد أربعة وثلاثين نصف فضة وأجرته إذا كان من طريق البحر من المنوفية أو نحوها مائة نصف وأقل وأكثر وأجرته من بولاق إلى مصر خمسة وعشرون نصفًا. ومنها أنه لما تنظم له ملك بلاد الصعيد ولم يبق له فيه منازع وقلد إمارته لابنه إبراهيم باشا ورسم بأن يضبط جميع أطيان بلاد الصعيد حتى الرزق الأحباسية المرصدة على المساجد والخيرات الكائنة بمصر وغيرها وأوقاف سلاطين مصر المتقدمين وخيراتهم ومساجدهم ومكاتبهم وصهاريجهم ووظائف المدرسين والمقرئين وغير ذلك ففعل ذلك وراك الأراضي بأسرها وشاع أنه جعل على كل فدان من أراضي الرزق والأوقاف ثلاثة ريالات لا غير وعلى باقي فدادين الأطيان ثمانية ريالات خلاف النباري وهو مزارع الذرة فجعل على كل عود من عيدان القطوة سبعة ريالات فرضي أصحاب الرزق والأطيان بهذا التنظيم وظنوا استمراره فإن الكثير من المرتزقة ما كان يحصل له من مزارعي رزقته مقدار ما يحصل له على هذا الحساب. ومنها أنه رسم له بالحجر على جميع حصص الالتزام فلم يبق لأربابها شيئًا إلا ما ندر وهو شيء قليل جدًا واحتج في ذلك باستيلاء الأمراء المصريين عليها عندما خرجوا من مصر وأقاموا بالبلاد القبلية فوضعوا أيديهم على ذلك وأنه حاربهم وطردهم وقتلهم وورث ما كان بأيديهم بحق أو باطل وسموه المضبوط وأما ما كان بأيدي أربابه أيام استيلاء المصريين وهم الملتزمون القاطنون بالبلاد القبلية أو بمصر ممن يراعي جانبه فإنه إذا عرض حاله وطلب إذنًا في التصرف وأخبر بأنه كان مفروجًا عنه أيام استيلاء المصريين وأثبت ذلك بالكشف من الروزنامة وغيرها فأما أن يؤذن له في التصرف أو يقال له نعوضك بدلها من البلاد البحرية ويسوف وتتمادى الأيام أو يحيل ذلك على ابنه إبراهيم باشا ويقول أنا لأعلقه في البلاد القبلية والأمر فيها لإبراهيم باشا وإذا ذهب لإبراهيم باشا يقول له أنا أعطيك الغائط فإن رضي أعطاه شيئًا نزرًا ووعده بالإعطاء وإن لم يرض قال له هات لي إذنًا من أفندينا وكل منهما إما مرتحل أو مسافر أو أحدهما حاضر والآخر غائب فيصير صاحب الحاجة كالجملة المعترضة بين الشارط والمشروط وأمثال ذلك كثير. ومنها الاستيلاء على جميع مزارع الأرز بالبحر الغربي والشرقي ورقب لهم مباشرين وكتابًا يصرفون عليهم من الكلف والتقاوي والبهائم ويؤخذ ذلك جميعه من حساب الفرض التي قررها على النواحي وعند استغلال الأرز يرفعونها بأيديهم ويسعرونها بما يريدونه ويستوفون المصاريف ومعاليم القومة والمباشرين المعين لهم وإن فضل بعد ذلك شيء أعطوه للمزارع أو أخوه منه وأعطوه ورقة يحاسب بها في المستقبل وفرض على كل دائرة من دوائر الأرز خمسة أكياس في كل سنة خلاف المقرر القديم وعلى كل عود ثلاثة أكياس فإذا كان وقت الحصاد وزنوه شعيرًا على أصحاب الدوائر والمناشر حتى إذا صلح وابيض حسبوا كلفه من أصل المقرر عليهم فإن زاد لهم شيء أعطوهم به ورقة وحاسبوا بها من قابل وأبطل تعامل المزارعين مع التجار الذين كانوا معتادين بالصرف عليهم واستقر الحال إلى أن صار جميعه أصلًا وفرعًا لديوان الباشا ويباع الموجود على ذمته لأهل الأقاليم المتسببين وغيرهم وهو عن كل أردب مائة قرش بل وزيادة وللإفرنج وبلاد الروم والشام بما لا أدري. ومنها أنه حصل بين عبد الله آغا بكتاش الترجمان وبين النصراني الدرزي منافسة وهو الذي حضر من جبل الدروز ويسمى الياس واجتمع بمصر على من أوصله إلى الباشا وهو بكتاش وخلافه وعرفوه عن صناعته وأنه يعمل آلات بأسهل مما يصنعه صناع الضربخانة ويوفر على الباشا كذا وكذا من الأموال التي تذهب في الدواليب والكلف وما يأخذه المباشرون من المكاسب لأنفسهم وأفرد له بقعة خاصة به بجانب الضربخانة وأمر بحضور ما يطلبه إليه من الحديد والصناع واستمر على ذلك شهورًا ولما تمم الآلة صنع قروشًا وضربها ناقصة في الوزن والعيار وجعل كتابتها على نسق القروش الرومية ووزن القرش درهمان وربع وفيه من الفضة الخالصة الربع بل أقل والثلاثة أرباع نحاس وكان المرتب في الأموال من النحاس في كل يوم قنطارين فضوعف إلى ستة قناطير حتى غلا سعر النحاس والأواني المتخذة منه فبلغ سعر الرطل النحاس المستعمل مائة وأربعين نصف فضة بعد أن كان سعره في الأزمان السابقة أربعة عشر نصفًا والفراضة سبعة أنصاف أو أقل ثم زاد الطلب للضربخانة إلى عشرة قناطير في كل يوم والمباشر لذلك كله بكتاش أفندي ثم إن بكتاش أفندي المذكور انحرف على ذلك الدرزي وذلك بإغراء المعاير وحصل بينهما مناقشة بين يدي الباشا والمعلم غالي بينهم وانحط الأمر في ذلك المجلس على منع الدرزي من مباشرة العمل ورتب له الباشا أربعة أكياس لمصرفه في كل شهر ومنعوا أيضًا من كان معه من نصارى الشوام من الطلوع الضربخانة واستمر بكتاش أفندي ناظرًا عليها ودقق على أرباب الوظائف والخدم ليأخذ بذلك وجاهة عند مخدومه ثم إن الباشا بعد أيام أمر بنفي الدرزي من مصر وجميع أهله وأولاده وانقضى أمره بعد أن تعلموا تلك الصناعة منه وفي تلك المدة بلغ إيراد الضربخانة لخزينة الباشا في كل شهر ألفًا وخمسمائة كيس وكان الذي يرد منها في زمن المصريين ثلاثين كيسًا في كل شهر أو أقل من ذلك فلما التزم بها السيد محمد المحروقي أوصلها إلى خمسين واستمرت على ابنه السيد محمد كذلك مدة فانتبذ لها محمد أفندي طبل المعروف بناظر المهمات وزاد عليها ثلاثين كيسًا وبقيت تحت نظارة المحروقي بذلك القدر ثم إن الباشا عزل السيد محمد المحروقي عناه وأبقاها على ذمته وقيد خاله في نظارتها ولم يزل الباشا يلعب هذه الملاعيب حتى بلغت هذا المبلغ المستمر وربما تزيد وذلك خلاف الغرامات والمصادرات لأربابها ثم وشى له على عبد الله آغا بكتاش بأنه يزيد في وزن القروش وينقص منه عن القدر المحدود فإذا حسب القدر المنقوص وعمل معدله في مدة نظارته تحصل منه مقدار عظيم من الأكياس فلما نوقش في ذلك قال هذا الأمر يسأل فيه صاحب العيار فأحضروه وأحضروا محمد أفندي ابن إسمعيل أفندي بدفتره وتحاققوا في الحساب فسقط منهم خمسة أكياس لم تدخل الحساب فقالوا أين ذهبت هذه الخمسة أكياس فطفقوا ينظرون إلى بعضهم فقال المورد الحق أن هذه الخمسة أكياس من حساب محمد أفندي ومطلوبة له وتجاوز عنها لفلان اليهودي المورد من مدة سابقة فالتفت الباشا إلى محمد أفندي وقال له لأي شيء تجاوزت لليهودي عن هذا القدر فقال لعلمي أنه خلي ليس عنده شيء فأخذتني الرأفة عليه وتركت مطالبته حتى يحصل له اليسار فقال كيف تنعم بمالي على اليهودي فقال إنه من حسابي فقال ومن أين كان لك ذلك وأمر به فبطحوه وضربوه بالعصي ثم أقاموه وأضافوا الخمسة أكياس على باقي الغرامة المطلوبة منه التي هو متحير في تحصيلها ولو بالاستدانة من الربويين كما قال القائل شكوت جلوس إنسان ثقيل فجاءوني بمن هو منه أثقل فكنت كمن شكا الطاعون يومًا فزاده على الطاعون دمل. ومحمد أفندي هذا من وجهاء الناس وخيارهم يفعل به هذه الفعال ثم انحط الحال مع بكتاش أفندي على أن فرض عليه ستمائة كيس يقوم بدفعها فقال ويعفوني أفندينا من نظارة الضربخانة فلم يجبه إلى ذلك واستمر في تلك الخدمة مكرهًا خائفًا من عواقبها. ومنها أن الريال الفرانسة بلغ في مصارفته من الفضة العددية إلى مائتين وثمانين نصفًا بل وزيادة خمسة أنصاف فنودي عليه بنقص عشرة وشددوا في ذلك وبعد أيام نودي بنقص عشرة أخرى فخسر الناس حصة من أموالهم ثم إن ذلك القرش الذي يضاف إليه من الفضة ربع درهم ووزن الريال تسعة دراهم فضة فيكون الريال الواحد بما يضاف إليه من النحاس على هذا الحساب ستة وثلاثين قرشًا يخرج منها ثمن الريال ستة قروش ونصف وكلفة الشغل في الجملة قرش أو قرشان يبقى بعد ذلك سبعة وعشرون قرشًا ونصف وهو المكسب في الريال الواحد وهو من جملة سلب الأموال لأن صاحب الريال إذا أراد صرفه أخذ بدله ستة قروش ونصفًا وفيها من الفضة الدرهم ونصف وثمن وهي بدل التسعة دراهم التي هي وزن الريال ثم زيد في الطنبور نغمة وهي الحجر على الفضة العددية فلا يصرفون شيئًا منها للصيارف ولا لغيرهم إلا بالفرط وهو أربعة قروش على كل ألف فيعطي للضربخانة تسعة وعشرون قرشًا زلائط ويأخذ ألف فضة عنها خمسة وعشرون قرشًا ثم زادوا بعد ذلك في الفرط فجعلوه خمسة قروش فيعطي ألفًا ومائتين ويأخذ بدلها ألفًا فانظر إلى هذه الزيادة والرذالة وكذا السفالة. ومنها استمرار غلاء الأسعار في كل شيء وخصوصًا في الأقوات التي لا يستغني عنها الغني والفقير في كل وقت بسبب الأحداثات والمكوس التي ترتبت على كل شيء ومنها المأكولات كاللحم والسمن والعسل والسكر وغير ذلك مثل الخضارات وإبطال جميع المذبح خلاف مذبح الحسينية والتزم به المحتسب بمبلغ عظيم مع كفاية لحم الباشا وأكابر دولته بالثمن القليل ويوزع الباقي على الجزارين بالسعر الأعلى الذي يخرج منه ثمن لحوم الدولة من غير ثمن فينزل الجزار بما يكون معه من الغنمة أو الاثنين الجفيط إلى بيت أو عطفة مستورة فتزدحم عليه المتتبعون له والمنتظرون إليه ويقع بينهم من المضاربة والمشاجرة ما لا يوصف وثمن الرطل اثنا عشر نصفًا وقد يزيد على ذلك ولا ينقص عن باثني عشر وكذلك الخضراوات التي كانت تباع جزافًا تباع بأقصى القيمة حتى أن الخس مثلًا الذي كان يباع كل عشرة أعداد بنصف واحد صارت الواحدة تباع بنصف وقس على ذلك باقي الخضراوات وأن الباشا لما وضع يده على الأراضي القريبة وأنشأ السواقي تجاه القصر والبساتين بناحية شبرا وحرث الأراضي الخرس وزرع فيه أنواع الخضراوات وأجرى عليها المياه وقيد لخدمتها المرابعين أيضًا والمزارعين بالمؤاجرة والمباشر على ذلك كله ذو الفقار كتخدا وعندما يبدو صلاح البقول والخضراوات يبيعها المتسببين فيها بأغلى ثمن وهم يبيعونها على الناس بما أحبوا وشاع بين الناس إضافة ذلك إلى الباشا فيقولون كرنب الباشا ولفت الباشا وملوخية الباشا وفجل الباشا وقرنبيط الباشا وزرع أيضًا بستانه من أنواع الزهور العجيبة المنظر المتنوعة الأشكال من الأحمر والأصفر والأزرق والملون أتوا بنقائها من بلاد الروم فنتجت وأفلحت وليس لها إلا حسن المنظر فقط ولا رائحة لها أصلًا. ومنها إن ديوانا المكس ببولاق الذي يعبرون عنه الكمرك لم يزل يتزايد فيه المتزايدون حتى أوصلوه إلى ألف وخمسمائة كيس في السنة وكان في زمن المصريين يؤدي من يلتزمه ثلاثين كيسًا مع محاباة الكثير من الناس والعفو عن كثير من البضائع لمن ينسب إلى الأمراء وأصحاب الوجاهة من أهل العلم وغيرهم فلا يتعرضون له ولو تحامى في بعض أتباعهم ولو بالكذب ويعاملون غيرهم بالرفق مع التجاوز الكثير ولا ينبشون المتاع ولا رباط الشيء المحزوم بل على الصندوق و المحزوم قدر يسير معلوم فلما ارتفع أمره إلى هذه المقادير صاروا لا يعفون عن شيء مطلقًا ولا يسامحون أحدًا ولو كان عظيمًا من العلماء أو غيرهم وكان من عادة التجار إذا بعثوا إلى شركائهم محزومًا من الأقمشة الرخيصة مثل العاتكي والنابلسي جعلوا بداخل طيها أشياء من الأقمشة الغالية في الثمن المقصبات الحلبي والكشميري والهندي ونحو ذلك فتتدرج معها في قلة الكمرك وفي هذا الأوان يحلون رباط المحزوم ويفتحون الصناديق وينبشون المتاع ويهتكون ستره ويحصون عدده ويأخذون عشرة أي من كل عشرة واحدًا أو ثمنه كما يبيعه التاجر غاليًا أو رخيصًا حتى البوابيج والأخفاف والمسوت التي تجلب من الروم يفتحون صناديقها ويعدونها بالواحد ويأخذون عشورها عينًا أو ثمنًا ويفعل ذلك أيضًا متولي كمرك الإسكندرية ودمياط وإسلامبول والشام فبذلك غلت أسعار البضائع من كل شيء لفحش هذه الأمور وخصوصًا في الأقمشة الشامية والحلبية والرومية المنسوجة من القطن والحرير والصوف فإن عليها بمفردها مكوسًا فاحشة قبل نسجها وكان الدرهم الحرير في السابق بنصف فضة فصار الآن بخمسة عشر نصفًا وما يضاف إليه من الأصباغ وكلف الصناع والمكوس المذكورة فبذلك بلغ الغاية من غلو الثمن فيباع الثوب الواحد من القماش الشامي المسمى بالألاجة الذي كانت قيمته في السابق مائتي نصف فضة بألفين فضة مع ما يضاف إليه من ربح البائع وطمع التاجر والنعل الرومي الذي كان يباع بستين نصفًا يباع بأربعمائة نصف والذراع الواحد من الجوخ الذي كان يباع بمائة نصف فضة بلغ في الثمن إلى ألف نصف فضة وهكذا مما يستقصى تتبعه ولا تستقصى مفرداته ويتولى هذه الكمارك كل من تزايد فيها من أي ملة كان من نصارى القبط أو الشوام والأروام ومن يدعي الإسلام وهم الأقل في الأشياء المدون والمتولي الآن في ديوان كورك بولاق شخص نصراني رومي يسمى كرابيت من طرف طاهر باشا لأنه مختص بإيراده وأعوان كرابيت من جنسه وعنده قواسة أتراك يحجزون متاع الناس ويقبضون على المسلمين ويسجنونهم ويضربونهم حتى يدفعوا ما عليهم وإذا عثروا بشخص أخفى عنهم شيئاُ حبسوه وضربوه وسبوه ونكلوا به وألزموه بغرامة مجازاة لفعله والعجب أن بضائع المسلمين يؤخذ عشرها يعني من العشرة واحد وبضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم يؤخذ عليها من المائة اثنان ونصف وكذلك أحدث عدة أشياء واحتكارات في كثير من البضائع مثل السكر الذي يأتي من ناحية الصعيد وزيادات في المكوس القديمة خلاف المحدثات وذلك أن من كان بطالًا أو كاسد الصنعة أو قليل الكسب أو خامل الذكر فيعمل فكرته في شيء مهمل عنه ويسعى إلى الحضرة بواسطة المتقربين أو بعرضحال يقول فيه أن الداعي للحضرة يطلب الالتزام بالصنف الفلاني ويقول للخزينة العامرة بكذا من الأكياس في كل سنة فإذا فعل تنبه المشار إليه فيعد بالإنجاز ويؤخر أيامًا فتتسامع المتكالبون على أمثال ذلك فيزيدون على الطالب حتى تستقر الزيادة على شخص أما هو وخلافه ويقيد اسمه بدفتر الروزنامة ويفعل بعد ذلك الملتزم ما يريده وما يقرره على ذلك الصنف ويتخذ له أعوانًا وخدمة وأتباعًا يتولون استخلاص المقررات ويجعلون لأنفسهم أقدار خارجة عن الذي يأخذه كبيرهم والذي تولى كبر ذلك وفتح بابه نصارى الأروام والأرمن فترأسوا بذلك وعلت أسافلهم ولبسوا الملابس الفاخرة وركبوا البغال والرهوانات وأخذوا بيوت الأعيان التي بمصر القديمة وعمروها وزخرفوها وعملوا فيها بساتين وجنائن وذلك خلاف البيوت التي لهم بداخل المدينة ويركب الواحد منهم وحوله وأمامه عدة من الخدم والقواسة يطردون الناس من أماه وخلفه ولم يدعو شيئًا خارجًا عن المكس حتى الفحم الذي يجلب من الصعيد والحطب السنط والرتم وحطب الذرة الذي كان يباع منه كل مائة حزمة بمائة نصف فلما احتكروه صار يباع كل مائة حزمة بألف ومائتي نصف وبسبب ذلك تشحطت أشياء كثيرة وغلت أثمانها مثل الجبس والجبر وكل ما كان يحتاج للوقود حتى الخبازين في الأفران فإننا أدركنا الأردب من الجبس بثمانية عشر نصف فضة والآن بمائتين وأربعين نصفًا وكذلك أدركنا القنطار من الجير بعشرة أنصاف والآن بمائة وعشرين والحال في الزيادة. ومنها أن الباشا شرع في عمارة قصر العيني وكان قد تلاشى وخربته العسكر وأخذت أخشابه ولم يبق فيه إلا الجدران فشرع في إنشائه وتعميره وتجديده على هذه الصورة التي هو عليها الآن في وضع الأبنية الرومية. ومنها أنه هدم سراية القلعة وما اشتملت عليه من الأماكن فهدم المجالس التي كانت بها والدواوين وديوان قايتباي وهو المقعد المواجه للداخل إلى الحوش علو الكلار الذي به الأعمدة وديوان الغوري الكبير وما اشتمل عليه من المجالس التي كانت تجلس بها الأفندية والقلفاوات أيام الدواوين وشرع في بنائها على وضع آخر واصطلاح رومي وأقاموا أكثر الأبنية من الأخشاب ويبنون الأعالي قبل بناء السفل وأشيع أنهم وجدوا مخبأت بها ذخائر الملوك مصر الأقدمين. ومنها أن الباشا أرسل لقطع الأشجار المحتاج إليها في عمل المراكب مثل التوت والنبق من جميع البلاد القبلية والبحرية فانبث المعينون لذلك في البلاد فلم يبقوا من ذلك إلا القليل لمصانعة أصحابه بالرشا والبراطيل حتى يتركوا لهم ما يتركون فيجتمع بترسخانة الأخشاب لصناعة المراكب مع ما ينضم إليها من الأخشاب الرومية شيء عظيم جدًا يتعجب منه الناظر من كثرته وكلما نقص منه شيء في العمل اجتمع خلافه أكثر منه.
|